الاثنين، 9 يوليو 2018

هل الشعور كاف لمعرفة كل حياتنا النفسية؟


لطالما  كانت رغبة الإنسان إلى المعرفة لا تقاوم على اعتبار أن المعرفة تتناول ما هو خارج ذاته كما أنها تتناول ذاته  وهذا ما يسمى بعلم النفس هذا الأخير الذي يدرس الكيان النفسي للإنسان كوقائع قابلة للمعرفة داخل الحياة النفسية وقد تميزت هذه الأخيرة بالتعقيد الذي جعلها تحظى باهتمام علماء النفس القدامى والمعاصرين فحاولوا دراستها وتغير الكثير من مظاهرها والبحث عن الأليات التي يتم من خلالها معرفة هذه الحياة فكان الشعور من أهم الأدوات والأليات على اعتبار أنه معرفة وإدراك المرء لذاته وأحواله وأفعاله إدراكا مباشرا وبهذا يصبح كل ماهو نفسي يرادف ماهو شعوري لكن الدراسات المتأخرة بينت أن الحياة النفسية ليست مطابقة دائما للحياة الشعورية ذلك  أن الشعور عجز عن تفسير الكثير من الأفعال وهذا ما فتح مجال لظهور اللاشعور الذي يغير الجانب الخفي من النفس الذي يؤثر في سلوكاتنا دون وعي منا وبظهور اللاشعور أثير جدل واسع بين الفلاسفة وعلماء النفس فاعتقد البعض منهم أن الشعور هوالأداة الوحيدة التي تمكننا من معرفة الحياة النفسية وذهب البعض الأخر إلى القول بإمكانية وفرضية وجود اللاشعور كألية وأداة لتفسير الحياة النفسية وفي ظل هذا التباين في الآراء يمكن أن نطرح المشكل التالي هل الشعور كاف لمعرفة كل حياتنا النفسية؟ أم أنه يمكن الحديث عن اللاشعور في ظل سيطرة الشعور؟  وبعبارة آخرى هل الحياة النفسية قوامها الشعور فحسب أم أنها تتجاوز إلى اللاشعور؟
العرض
الموقف الأول  للإجابة عن هذه الإشكالية ظهرت عدة أراء متناقضة ومتعارضة حيث يذهب أنصار علم النفس التقليدي من فلاسفة وعلماء وأطباء إلى الاعتقاد أن الشعور هو المبدأ الوحيد للحياة النفسية وهو أساس كل معرفة نفسية فيكفي أن يحلل المرء شعوره ليتعرف بشكل واضح على كل ما يحدث في ذاته من أحوال نفسية أو ما يقوم به من أفعال ويصبح الشعور والنفس مترادفان ومن ثم فكل نشاط نفسي شعوري وما لا نشعر به ليس من انفسنا  ولعل من أبرز المدافعين عن هذا الموقف  نجد إبن سينا  و ديكارت الان ستيكال و هنري أي واعتمدو لتبرير موقفهم على عدة حجج أين نجد إبن سينا قد بين أن لإنسان السوي إذا ما تأمل في نفسه يشعر أن ما تتظمنه من أحوال في الحاضر هو إمتداد للأحوال التي كانت عليها في الماضي و سيضل يشعر بتلك الأحوال طيلة حياته لأن الشعور لا يتوقف أبدا .
وأن لا صلة له بوجود الجسم و أن الشعور يمكن أن يبقى حتى عندما تكون أجزاء الجسم منفصلة  بعضها عن بعض ويضل دائما يشعر بتفكيره ويقول في هذا الصدد "الإنسان إذا تجرد عن تفكيره في كل شيئ من المحسوسات أو المعقولات حتى عن شعوره ببدنه فلا يمكن أن يتجرد عن تفكيره في أنه موجود وأنه يستطيع أن يفكر" و بهذا فإن الشعور مرتبط  با الوعي كما أن الفيلسوف الفرنسي روني ديكارت قد أكد على هذا الموقف منطلقا بذلك من الكوجيطو الديكارتي" أنا أفكر إذن أنا موجود" وهذا يعني أن الفكر دليل الوجود وأن النفس البشرية لا تنقطع عن التفكير إلا اذا انعدم وجودها و أن كل ما يحدث في الذات قابل للمعرفة و اذا نظرنا الى الشعور نجده قابل للمعرفة اذن فهو موجود .
 كما يؤكدهنري أي أن الحياة النفسية مرادفة للشعور و يقول "الشعور و الحياة النفسية مترادفان و بالتالي فان الظاهرة إما لاشعورية فيزيائية أو شعورية نفسية"
أما اللاشعور فهو غير قابل للمعرفة و بالتالي غير موجود ويقول ديكارت" الشعور و الحياة النفسية مترادفان" كما يقول أيضا"لا توجد حياة نفسية خارج الروح الا الحياة الفيزيولوجية ومن خلال هذا يصبح قوام الحياة النفسية هو الشعور فقط كما يذهب ألانالى القول بآن النفس الإنسانية لا تنقطع عن التفكير وعن الشعور الا اذا انعدم وجودها و محال أن نتصور عقلا لا يعقل و نفسا لا تشعر و لهذا يقول ألان"إن ا لإنسان لا يستطيع أن يفكر دون أن يشعر بتفكيره"  و بالتالي فا التفكير خاصية إنسانية تعبر عن الوجود الانساني انطلاقا من الشعور و كحجة منطقية نجد أن القول بوجود نشاط نفسي لا نشعر به و أعني بذلك اللاشعور هذا في حقيقة الأمر يعتبر تناقضا مع حقيقة النفس القائمة على الشعور بها وبالتالي لا يمكن الجمع بين النقيظين  الشعور و اللاشعور  في النفس الواحدة فأما أن تكون الحياة النفسية قائمة على الشعور فقط أم  اللاشعور إظافة الى ذلك نجد أن لو كان اللاشعور موجودا لكان قابل للملاحظة لكننا لا نستطيع ملاحظته داخليا عن طريق الشعورلإننا لا نشعر به و هذا يعني أن اللاشعور غير موجود و نجد أيضا أن أهم انتقاد وجه لفرضية اللاشعور هو ستيكال الذي رفض وجود اللاشعور حيث يقول"لا أومن باللاشعور لقد أمنت به في مرحلتي الأولى لكن بعد تجاربي التي دامت ثلاثين سنة وجدت أن كل الأفكار المكبوته انما هي تحت الشعور و أن المرضى يحاولون دائما رؤية الحقيقة و نستنتج من هذا أن الشعور يبقى الأساس الوحيد للحياة النفسية.
النقد
لكن القول بالشعور كأساس الحياة النفسية و انكار اللاشعور و عدم التسليم به يبقى جزءا هاما من سلوك الأنسان غامضا و مجهول لأسباب غير أن الدراسات المعاصرة في علم النفس كشفت أن الحياة النفسية قد تكون أوسع بكثير من الحياة الشعورية و أن الوعي يعجز الإطلاع عن كثير من الخفايا المظلمة في النفس لتكون فرضية اللاشعور احدى الحلول المفسرة للجوانب الخفية في النفس .
الموقف الثاني
وعلى خلاف الرأي  الأول يذهب كثير من أنصار علم النفس المعاصر الى القول أن الشعور وحده غير كاف لمعرفة كل خبايا النفس و مكوناتها كون الحياة النفسية ليست شعورية فقط و انما تتعدى الى اللاشعور كفرض مشروع فا لأنسان لا يستطيع في جميع الأحوال أن يعي و يدرك أسباب سلوكه و يمثل هذا الإتجاه كل منبيرتهياموشاركووبروير و هم من أشهر الأطباء و الرواد في الميدان العلاجي كما انشغل أيضا في هذا المسلك الطبيب النمساوي سيغموند فرويد و لتبرير موقفهم اعتمدو على العديد من الحجج بداية انطلقو من اعتبار أن أخصب ميدان مهد لاكتشاف اللاشعور و رفع من كثير من الأحوال اللاواعية هي تلك البحوث الطبية التي كان يجريها علماء و أطباء الأعصاب لعلاج مرض الهستيريا هذا الأخير الذي كان يترتب عنه أعراض في شكل اظطرابات ذهنية و حركية كفقدان الذاكرة, الحساسية, الشلل كما أن أسباب هذا المرض ليست عضوية مادية بل تعود الى أسباب نفسية و للكشف عنها استخدمو التنويم المغتاطيسيكا طريق علاجية ومن خلالها يستعيد المريض الأحداث التي لم يكن يستطيع أن يقف عليها في حالة الصحو وعند استيقظه يشعر المريض بتحسن حالته لكن سلبيات التنويم المغناطيسي كطريقة للعلاج أدى سغموند فرويد الى البحث عن طريقة أخرى لعلاج الأمراض النفسية الناتجة عن اللاشعور وهي طريقة جديدة هي التداعي الحر في اطار التحليل النفسي الذي مكنه من اكتشاف اللاشعور و اثبات وجوده حيث ينطلق من قوله" اللاشعور فرضية لازمة و مشروعة ...مع وجود الأدلة التي تثبت  و جود اللاشعور و يستدل فرويد بداية اعتبار أن لكل ظاهرة سببا يفسرها و من هنا كان إنكار اللاشعور يبقى جزءا كبير من أحوالنا وسلوكاتنا بدون تفسير و الواقع أيضا يثبت لنا بأننا نجهل مصدر الكثيرمن الأفكار و الإنفعالات لهذا أكد فرويد" أن تقسيم الحياة النفسية إلى ما هو شعوري و ما هو لا شعوري هو الفرض الأساسي الذي يقوم عليه التحليل النفسي"
كما يكشف لنا التحليل النفسي أنه هناك علاقة وطيدة قائمة بين الأمراض العصبية و النشاطات اللاشعورية التي نعبر عنها بمظاهر لاشعورية كالهفوات الأحلام و فلتات اللسان ,زلات القلم وغيرها من المظاهر التي تدل على  المكبوتات النفسية والتي لا يمكن معرفتها بمنهج التأمل الباطني القائم على الشعور بل نستدل عليها من خلال أثارها على سلوك إضافة إلى ذلك ما  يثبت اللاشعور هو الحيل اللاشعورية التي نستخدمها لتخلص من الدوافع المنبوذة أو لمقاومة بعض الذكريات كما لا ننسى أن الكثير من الأمراض و العقد و الإضطرابات النفسية يمكن علاجها بالرجوع إلى الخبرات و الأحداث كالصدمات و الرغبات المكبوتة و أخيرا ما يثبت اللاشعور هو موقعه في الجهاز النفسي الذي تصوره فرويد وجعله في ثلاث مستويات أو قوى أساسية المتمثلة في الهو و الأنا و الأنا الأعلى و كدليل على وجود اللاشعور هو الهو و هو عمق منطقة اللاشعور وهو منبع و أساس القوى الغريزية و الجنسية الغير منظمة و التي تسعى دائما إلى التحقيق و الإشباع و التي يمنعها الأنى الأعلى من الخروج إلى ساحة الشعور بإعتباره يشكل مجموع الموانع و المحظورات الخلقية و القوانين ,الظوابطالتي يجسد السلطة الإجتماعية و في ضل هذا الصراع يتدخل الأنى أو الشعور و ينظم العلاقة بينهما من خلال سعيها للخدمته و تحقيق اشباعات الهو ومراعات الواقع وإغرام قواعده و بهذا يتحقق التوازن و التلأوم.
و أخيرا فإن هذه الأدلة و المبررات تجعل من اللاشعور فرضية مشروعة و حقيقة لا يمكن إنكارها.
النقد
لكن القول بالاشعور كفرضية مشروعة و حقيقة مؤكدة يجعل من  الإنسان أشبه بالحيوان المسيرالتي تتحكم فيه الغرائز و الميولات المكبوتة كما أن التحليل النفسي المتبني لهذه الفرضية قد عجز عن علاج الكثير من الأمراض كما أن نظريته أصابت في بعض الحالات و فشلت في الكثير منها و أخيرا هذه المدرسة لم تقدم برهانا و أدلة واقعية و أكثر إقناعا وإنما إعتمدت على تفسيرات سلوكية فقط.
التركيب
و يتضح لنا مما سبق أن الحياة النفسية كيان معقد يتداخل فيه   ما هو شعوري بما هو لاشعوري فالشعور يمكننا من فهم الجانب الواعي من الحياة النفسية و اللاشعور يمكننا من فهم الجانب اللاواعيمنها أي فك الغموض عن الكثير من السلوكات و الأفعال و تقديم تفسير يبررها و بهذا تكون الحياة النفسية أكثر وضوحا.
الخاتمة
نستنتج من خلال التحليل السابق أن الإنسان يعيش حياة نفسية ذات جانبين جانب شعوري يمكننا من إدراكه و الإطلاع عليه من خلال الشعور و جانب لا شعوري يمكن الكشف عنه من خلال التحليل النفسي مما يجعلنا نقول أن الحياة النفسية من الصعب تأكيد و إثبات حقائها لأنها تبقى أحداث وصفية ,تفسيرية سواء كانت شعورية أو لاشعورية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق